في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، قرر المنتدى الاقتصادي العالمي عقد مؤتمره السنوي في نيويورك تكريما لمدينة وقعت ضحية للإرهاب في ذلك اليوم. وفي المؤتمر بحث الساسة والاقتصاديون والمحللون والخبراء من أنحاء العالم سؤالا هاما: ما هو السبب وراء التطرف او العنف او الإرهاب؟ ما هي دوافعه. وخلص كثيرون الى ان التفسير التقليدي للإرهاب ليس كافيا وليس مقنعا. التفسير التقليدي هو تفسير اقتصادي يقول ببساطة إن الفقر هو الدافع، وإن الأحوال الاقتصادية والمعيشية والبطالة في مجتمع، تدفع الشباب نحو التطرف الديني، وربما العنف والإرهاب. وفي رفضهم لهذا التفسير اشار كثيرون إلى أن أفقر مجتمعات العالم لم تولد ارهابيا واحدا. خذ الصين والبرازيل مثلا. لم نسمع عن ارهابي صيني او برازيلي وهما مجتمعان فقيران. واشار خبراء ايضا الى حقيقية ان اسامة بن لادن ليس فقيرا، والى ان الشباب الذين نفذوا هجمات سبتمبر لم يكونوا فقراء، بل جاء معظمهم من بلدان عربية غنية، وحتى المصري محمد عطا، الذي قاد المجموعة هو من الطبقة المتوسطة ، ودرس التكنولوجيا في المانيا.أي انه كان مؤهلا لوظيفة يمكن ان تدر عليه دخلا ماليا كبيرا. وكان من بين هذه المجموعة ايضا لبناني جاء من اسرة موسرة.
نشأت نظرية اخرى تقول إن الدراسات تشير بوضوح الى صلة قوية بين الإرهاب وبين التغرب. هذه الدراسة بحثت حياة العديد من الشباب الذين انخرطوا في اعمال إرهابية او سعوا اليها، ووجدت ان ابرز هؤلاء هم من الشباب الذين اتصلوا بالمجتمعات الغربية او ممن رحلوا عن بلادهم الأصلية لسبب وآخر. ابن لادن نفسه تغرب في السودان وافغانستان. الشباب الذين دبروا و نفذوا هجمات سبتمبر عاشوا في المانيا. خالد شيخ محمد ، العقل المدبر لهذه الهجمات عاش وتعلم في الولايات المتحدة قبل ان يعود الى بلاده ، باكستان. رتشارد ريد، الشاب الذي حاول تفجير طائرة باستخدام متفجرات في حذائه، ولد في بريطانيا لأسرة آسيوية. حادثة تفجير القطار في اسبانيا دبرها ونفذها متغربون اغلبهم من شمال افريقيا والمغرب العربي. هذا التغرب او الاحتكاك بمجتمع او ثقافة اجنبية يسفر عن تفاقم التبرم والتمرد على تلك الثقافة او ذلك المجتمع. وتشير هذه الدراسة الى ان التغرب تصاحبه ايضا ازمة هوية. لكن هذه النظرية او هذا التفسيير لا يقدم سببا مقنعا لتفشي التطرف او الإرهاب الداخلي في بلاد عديدة من بينها، على سبيل المثال ، مصر والجزائر وباكستان وافغانستان وتركيا والمغرب. في هذه البلاد ، المتطرفون واصحاب الأعمال العنفية يأتون من هذه البلاد نفسها ، وهم ليسوا مغتربين او متغربين. ثم إن الاحتكاك بالمجتمعات الغربية لم يسفر دوما عن ظاهرة التطرف. ابرز المصلحين الإسلاميين في بدايات القرن العشرين هو الشيخ محمد عبده الذي درس في باريس بعد الأزهر. وعاد من بعثته التعليمية في باريس وقال: شاهدت في فرنسا مسلمين وإن لم اشهد فيها الإسلام. وهدى شعراوي، المصرية التي عادت من فرنسا ، هي احدى ابرز المصلحات الاجتماعيات في وقت كانت فيه مصر تغلي بالرغبة في الاستقلال والحرية من الاستعمار الأجنبي. أي ان الاحتكاك بمجتمع اوروبي مستعمر لم يولد تطرفا او ميولا عنفية لدى محمد عبده او هدى شعرواي ، بل العكس ، ولد حركة اصلاحية دينية واجتماعية قامت على التفسير العقلاني للدين في حالة الشيخ محمد عبده، وعلى حرية المرأة في مجتمع مسلم وعصري في آن واحد. نعم، سوف نجد خالد شيخ محمد الذي درس الهندسة في جامعة اميركية ثم عاد ناقما على المجتمع الأميركي. ولكننا سوف نجد ايضا في نيويورك الشيخ رضا شطا، إمام احد المساجد هناك. جاء من قرية في الريف المصري ووجد نفسه مسئولا دينيا عن جالية تعيش في اميركا. في البداية، كان الشيخ شطا يتصل بأساتذته في الفقه والدين في مصر بحثا عن حلول واجابات لمشاكل واسئلة المسلمين في نيويورك. ولكنه شيئا فشيئا اكتشف ان الفتاوى الدينية الصادرة من مدينة القاهرة او قرية كفر البطيخ، غير ملائمة عمليا لمجتمع اسلامي اميركي. هذا الاكتشاف دفعه الى الاستقلال عن اساتذته الأصليين في مصر والى الاجتهاد لتطوير فتاوى واجابات ذاتية تتلاءم مع طبيعة مشاكل الجالية في مجتمع اميركي ومفاهيم المجتمع. فلسفة شطا اليوم هي: نحن في حاجة الى المحبة، وليس الى العنف والتطرف. المجتمع الذي دفع خالد شيخ محمد الى التعصب والكراهية والتطرف، هو نفسه الذي دفع رضا شطا إلى المرونة والاجتهاد والحب.
ما هو الدافع إذن الى التطرف والإرهاب؟ الحقائق تقول بوضوح إن العنف الديني يأتي من جانب شباب في عمر معين. سوف نجد شيوخا تحث على العنف. ولكننا لن نجد شيوخا تقترف العنف. الشيخ عمر عبد الرحمن موجود في السجن الآن يمضي عقوبة الحبس مدى الحياة في الولايات المتحدة ( في المستشفى الآن لأسباب صحية) ، ليس لأنه شارك فعليا في تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك في المرة الأولى في بدايات التسعينيات. بل لأنه وجد مذنبا بتحريض الشباب على التفجير. قال لهم: حلال تفجير المبنى ، وحلال تفجير الأمم المتحدة، وحلال تفجير النفق والجسر وإغراق نيويورك. أخذ الشباب فتواه لأنه بشرهم بالجنة، ونفذوا تفجير المركز بدون نجاح كبير. هذا هو البرج نفسه الذي فجر بالطائرات فيما بعد في سبتمبر 2001.
إذن من المهم ان نتعرف على ما يدور في عقول وقلوب الشباب بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين. هؤلاء يشكلون ستين في المائة من عدد السكان في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك البلاد العربية وايران.
وهذا يأخذنا من جديد الى الصلة بين الفقر والإرهاب.
|