يبدأ الأمام مسيرته قبل الفجر. ثوبه الطويل يرفرف كما لو كان شبحاً في الشوارع الخالية. في هذه الساعة المظلمة والهادئة، تعود به أفكاره أحياناً إلى قريته الزراعية حيث ولد.
قيم قديمة في أرض جديدة
المقالة الأولى من ثلاث مقالات
Part 2: To Lead the Faithful in a Faith Under Fire (March 6, 2006)
Part 3: Tending to Muslim Hearts and Islam's Future (March 7, 2006)
وبمجرد أن تشرف الشمس على بيريدج، تدب الحياة في عالمة الجديد. قطار الأنفاق ( آر) يهز الرصيف الممتلئ بالأوراق المتناثرة. هناك يتجمع العمال المكسيكيون في البرد. وفي مكان ليس ببعيد، يرقص بابا نويل إلكتروني على نافذة إحدى المقاهي، بينما تضيء لائحات النيون الملونة، ويبدأ سواقي سيارات الأجرة بنفخ أبواقهم. يدلف الإمام إلى مبنى من الطوب لا يشبه البتة المسجد ذو القبة المذهبة التي رآها في صباه. يتوقف للصلاة، ومن ثم يصعد الدرج المفروش بالسجاد المشقق إلى مكتبه غير المرتب. ضوء جهاز تلقي المكالمات ( الآنسر مشين ) يغمز بشكل جنوني كعلامة على الأسئلة التي لا تنتهي.
فتاة مراهقة اتصلت تسأل عما إذا كان تناول وجبة (بيغ ماك) من محلات مكدونالد حلال؟ ونادل يسأل عما إذا كان يمكن أن يسقي الخمر طالما أنها محرمة في القرآن؟ وآخر يسأل عما إذا كان من الجائز التعامل بالرهن العقاري طالما أن الإسلام لا يبيح التعامل بالفائدة المالية؟
تلك الأسئلة ما هي إلا جزء صغير من المتاهة التي يجب على السيد شطا حلها كإمام للتجمع الإسلامي في بيريدح، وهو مسجد ناجح يقصده آلاف المصلين.
السيد شطا يعتبر بالنسبة لرواد المسجد أكثر من إمام للصلوات اليومية، وأكثر من مجرد خطيب جمعة. فالكثيرون منهم يعيشون في أرض بلا أهل يساعدونهم في الحصول على شريك للحياة. وهناك أيضاً القليل من الأقرباء للمساعدة في حل المشاكل الشخصية، ولا يوجد هناك دار فتوى تصدر الإحكام فيما يتعلق بالمسائل الأخلاقية.
وصل الشيخ رضا – كما يسمونه – إلى بروكلين بعد عام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وبين ليلة وضحاها وجد نفسه قاضيا إسلاميا، ومديراً لمدرسة حضانة، ورجلا يقدم الراغبين في الزواج إلى بعضهم ومستشاراً في المشاكل الزوجية...باختصار: خط ساخن على مدار الساعة في كل ما يتعلق بالإسلام.
ويتوجب عليه يوما بعد آخر أن يجد أساليب وطرق للجمع بين التقاليد الأسلامية والحياة الأمريكية. ولم تجهزه نشأته الفلاحية المصرية أو تعليمه الديني للوقوف أمام تحديات قيادة مسجد في أمريكا.
أرهقته هذه الوظيفة غير أنها فتحت عقله، وطرحته على سرير في مستشفى إلا أنها نشرت صيته في بقاع تبعد عن بروكلين كثيراً.
"ويؤكد السيد شطا قائلاً: " لقد غيرتني أمريكا من الجمود إلى الليونة. فقد جئت من بلد يتحدث فيه الشيخ وينصت الناس إلى بلد يتحدث فيه الشيخ ويرد عليه الناس."
فهذه إذاً قصة رحلة السيد شطا غرباً.. وصناعة إمام أمريكي.
ازداد عدد المسلمين في الولايات المتحدة بشكل كبير خلال النصف الأخير من القرن الماضي، فقد استقر المهاجرون من الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا في بقاع مختلفة على إمتداد البلاد، مؤسسين بذلك مساجداً في بوسطن ولوس إنجليس، ومحولين الإسلام إلى واحد من أسرع أديان الأمة نمواً. ويصل عدد المسلمين بحسب بعض التقديرات إلى 6 ملايين مسلم.
يقوم الأئمة بقيادة طوائفهم إلى التطور، فعلى الآئمة أن يوحدوا بين التقاليد الإسلامية ورواد المسجد ذوي الثفافات المختلفة. وعليهم كذك أن يحاربوا تهديدات الإرهاب، وأن يجيبوا على أسئلة رجال القانون مع التأكد في الوقت نفسه من عدم خسارتهم لثقة المصلين. وفي أحيان كثيرة يستلزم عليهم أن يضعوا جانباً بعض المعتقدات المحافظة والتي تنتشر في الشرق الأوسط – الأرض التي ولد عليها الإسلام.
الإسلام دين ذو بعد تشريعي، فالمسلمون يعتقدون بقانون إلهي يوجه حياتهم اليومية ، ليحدد لهم ما يأكلوه ومايشربوه وما يلبسوه..وهذه أمور مقبولة في بلاد السيادة فيها للدين.
في الغرب كل ما حرمه الإسلام منتشر في كل مكان. الكحول يملأ الشكولاته، والنساء يمارسن رياضة الجري بحافظات الأثداء الرياضية فقط، ولذا فالحياة في أمريكا – بالنسبة للكثير من المسلمين - هي عبارة عن صدام يومي بين الثقافة الإسلامية والرغبات المادية. ويقف الأئمة وسط هذا الصدام.
في أمريكا يحنط الأئمة في أطر بسيطة كرجال دين ملتحين يرتدون الأثواب الطويلة ويصدرون فتاوى في أرض غريبة. ورغم وجود المئات من الأئمة ممن يعيشون في الولايات المتحدة، إلا أن الصورة النمطية عنهم تظل ذات بعد واحد: فهم إما أمثلة للتنوع البشري في البلاد، حيث يعمد بهم إلى الإفطار في رمضان مع سياسين باسمين، أو أنهم متعصبون يهرعون إلى مساجدهم الصغيرة.
السيد شطا ( 37 عاماً ) ليس مثيرا للفتن ولا هو بالداعي إلى الإسلام المتحرر. فبعضٌ من رؤاه تغضب المحافظين من المسلمين، وبعضها الآخر تنفر الليبراليون الأمريكان. ولهذا فهو – من نواح عديدة – عمل في خضم التطور، يحاول أن يجد خريطة خاصة به للوصول إلى الوسط بين عالمين مختلفين.
مكتب الإمام الذي تلفه الستائر ، يكاد يخفي بصعوبة ما يجري داخله: نساء تبكي .. ورجال يهدرون .. وصداقات تتحطم ، وفي كل يوم هنا قصة تروى
امرأة مغربية صرخت: "ارحميني" وهي تجثو – مستعطفة صديقتها التي اتهمتها بالسرقة - على الأرض إلى جانب طابعة الإمام التي يعلوها علامة ( هيليوت باكرد)، وفي يوم آخر ، رجل وزوجته اللبنانية، التي أخفت زواجهما وابنهما الوليد عن والدها المحافظ، ليصرح الرجل: "سأخبره بكل شيء!".
السيد شطا يتوصل إلى تسوية بشأن المهور، ويواجه المعتدين على نسائهم، ويعمل وسيطا للاتفاقات التجارية، كما أنه يحاول أن يؤلف بين قلوب الراغبين في الزواج. ويتعامل مع أي مشكلة بثقة تكاد تكون علمية من أنه يمكن حلها، يقول لك: "أحاول أن أكون طبيباً.. أكثر مني قاضياً، فالقاضي يحكم .. والطبيب يحاول أن يعالج."
يخدم الأئمة في الولايات المتحدة ما يقدر بـ1200 مسجداً. بعض رواد هذه المساجد ممن عاشوا على هذه الأرض لأجيال، فاندمجوا اجتماعياً ونجحوا على المستوى المهني. وهناك أيضاً الآخرون، وهم مهاجرون جدد لا يزالون يحاولون أن يجدوا لأنفسهم موضع قدم في أمريكا. ويتوقع علماء السكان أن يزداد عددهم ليتعدى – خلال العقود القادمة – عدد اليهود الأمريكيين.
معظم الأئمة – كالكثير من أبناء جاليتهم – جاؤوا من الخارج، يتم إحضارهم لمعرفتهم بالقرآن وباللغة التي أنزل بها: العربية.
دعوة للإسلام
هناك ما يزيد عن خمسة آلاف ميل تفرق بين بروكلين وكفر البطيخ- مسقط رأس السيد شطا في شمال شرق مصر، عند النقطة التي تلتقي فيها دلتا النيل مع قناة السويس. في عام 1968 ، وهو العام الذي ولد فيه السيد شطا ، كانت كفر البطيخ عبارة عن قرية تخترقها الشوارع الترابية وتملئها بساتين البطيخ.
كانت مصر تعيش - في تلك الأيام – فترة تحولات، فلم يكن قد مضى الكثير على خروجها بهزيمة مرة في حرب الأيام الستة مع إسرائيل. وخرجت المظاهرات إلى الشوارع ضد الحكومة. حاول الرئيس الجديد حينها – أنور السادات – أن يتيح للحركة الإسلامية المجال للتنفس بعد أن عانت الاضطهاد طويلاً.
ينتمي السيد شطا – وهو ابن مزارع وتاجر أسمدة – إلى شريحة الطبقة الفلاحية الوسطى. لم يكن في منزلهم كهرباء ، ولم ير تلفازاً إلا عندما بلغ الخامسة عشر من عمره.
جاءه الإسلام مجيئاً ناعماً مع نغمات صوت جدته، التي كانت تحكي له سيرة النبي محمد كـ"قصة قبل النوم"، واستمع الصبي إلى أشياء مألوفة، فهو فقد أمه – تماماً كالنبي محمد - في سن مبكرة.
وهو يقول "لقد قصت علي القصة نفسها ألف مرة"
بدأ - في سن الخامسة - بحفظ القرآن الكريم ، مثله في ذلك مثل الكثير من أطفال ريف مصر، والتحق بمدرسة سنية تدعمها الحكومة وتشرف عليها جامعة الأزهر، وهي قلعة للعلوم الإسلامية.
ولأنه لم يكن يملك النقود لشراء الكتب ، فقد عمد شطا الصغير إلى نسخ المئات من كتب المكتبة العامة بخط يده، وتمتلئ مكتبته في بيريدج بالكثير من تلك المجلدات. انخرط بعد تخرجه في جامعة الأزهر ، وكان عليه التوجه إلى القاهرة. وجلس على مقعد خشبي يتأمل المناظر أمامه.
ويقول متذكراً: "كنت كالطفل التائه. كانت هناك السيارات، ولم يكن عندنا سيارات. وكانت الناس أشكالاً وألواناً، وكان هناك الأجانب، والنساء شبه عاريات.. كان وكأنه عالم من الخيال."
في سن الثامنة عشر ، كان السيد شطا يحلم بأن يصبح قاضيا ، إلا أنه إلتحق بكلية الدعوة تحقيقاً لرغبة والده
يدل مصطلح الدعوة على واجب المسلمين بدعوة الآخرين إلى دينهم. وليس في الإسلام طبقة رجال دين ( على غير الكاثولوكية واليهودية). فالرسول محمد كان أول إمام للصلوات في الإسلام، وهي وظيفة مقاربة إلى حد كبير لوظيفة الأحبار والقساوسة، وتعد مدارس الدعوة النسخة الإسلامية من المدارس الدينية المسيحية واليهودية.
وتخرج السيد شطا بعد أربعة أعوام في المرتبة السابعة على دفعة من 3400 طالبا.
وحملت السنوات التي تلت ذلك الكثير من دروس التكيف. فبسبب حاجته للمال، أخذ السيد شطا وظيفة يعلم فيها الشريعة في إحدى مدارس المملكة العربية السعودية – وهي دولة تتبع المذهب الوهابي، وهو مذهب سني صارم. وهناك وجد أن تفسير القرآن يكون حرفيا أحيانا، ولم ترق له معاملة النساء اللاتي لا يسمح لهن بالتصويت أو قيادة السيارات.
وعاد بعد 5 أعوام إلى مظهر آخر من مظاهر السيطرة الدينية. فأكثر الأئمة في مصر يتم تعيينهم من قبل الحكومة، التي تراقب أنشطتهم، في بحثها عن إشارات قد تدل على الرديكالية أو الانشقاق السياسي.
ويصف خالد أبو الفضل – وهو مصري وأستاذ للقانون في جامعة كاليفورنيا - ذلك بقوله: " لا يسمح لهم بالخروج على النهج الذي تحدده لهم الحكومة."
وكان السيد شطا يرغب باستقلال أكبر، فقام بفتح محل مفروشات، غير أنه افتقد حياة الدعوة فعاد إلى مسجد بلدته الذي كان يضم أكثر من 4000 مصل يوم الجمعة.
وكانت مهامه محددة: إقامة الشعائر، وإلقاء خطب الجمعة، وكان مسجده ذاك تابعاً لوزارة الأوقاف، فأنفق السيد شطا وفت فراغه في إقاء الخطب، وإتمام عقود الزواج وأحياناً عرض بعض التوجيهات الدينية.
في عا م 0 200 غادر السيد شطا للعمل كأمام في مدينة ستوتغارت، وهي مدينة صناعية ألمانية. وأعطته ألمانيا نفحة حرية جديدة: "رأيت عالماً أكبر" كما يقول السيد رضا، ثم يتابع قائلا: "حيث بإمكان أي فرد أن يعبر عن رأيه."
ثم كانت أحداث 11 سبتمبر.
ولم يمر وقت طويل حتى كانت الكتابات المهينة قد ملئت واجهة المسجد والتي وسخت أيضاً ببعض الفضلات البشرية.
وبعد عام من ذلك ، تلقى السيد رضا إتصالأً من إمام في بروكلين. كان الرجل – محمد موسى – راحلاً عن مسجده بعد أن ناله الإرهاق بسبب المشاكل الذي يعانيها رواد المسجد بعد الهجوم الإرهابي. كانوا يبحثون عن بديل ، وكان السيد رضا على رأس القائمة بعد أن رشحه أستاذ في الأزهر.
فغالباً ما يتم توظيف الأئمة بناء على تزكية أئمة آخرين أو علماء ثقات. ويعمل الأئمة بعقود عمل سنوية، بعضها تشمل خدمات الرعاية الصحية وبدلات السكن، وبعضها الآخر لا تشمل أيا من ذلك، ويتفاوت ما يتقاضاه أولئك الأئمة متراوحاً بين 20 ألف دولار إلى 50 ألف دولار.
كان السيد شطا قد سمع بما يواجهه المسلمون من مشاكل في أمريكا ، وكان المرتب المعروض عليه أقل مما كان يتقاضاه في المانيا ، إلا أن ما كان يشغل باله هو زوجته وبناته الثلاث اللواتي لم يكن قد رآهن لعدة أشهر بعد أن رفضت المانيا السماح لهن بالدخول إليها.
ولذا فقعد وافق على أخذ الوظيفة فقط إذا استطاع إحضار أسرته إلى أمريكا، وفي أكتوبر من عام 2000 أعطت السفارة الأمريكية في القاهرة تأشيرة الدخول للأسرة فاستقلت طائرة إلى نيويورك .
مسجد...مغناطيس
ترتفع واجهة من الطوب الأبيض على الجادة الخامسة شمال شارع 68 في البيريدج، وقد علقت عليها لافتة تعلن هوية المسجد باللغتين العربية والإنجليزية.
المهاجرين من الفلسطينيين والمصريين واليمنيين والمغاربة والجزائريين يعرفون هذا المبنى بـ"مسجد مصعب" (تيمناً باسم أحد أصحاب النبي: مصعب بن عمير). وبالنسبة لمن يجيدون الإنجليزية فقط من جيران المسجد، وهم من الإيطاليين والإيرلنديين والنرويجيين – كانوا يملؤون هذا الحي في فترة من الفترات، بالنسبة لأولئك جميعاً هذا المبنى هو "التجمع الإسلامي في بيريدج".
تعرف المساجد في أنحاء أمريكا بأنها مراكز أو تجمعات نظراً للخدمات الكثيرة التي تقدمها. وهناك أكثر من 140 مسجداً في مدينة نيويورك ، حيث يعيش ما يقارب من ستمائة ألف مسلم ، 20% منهم من الأفارقة الأمريكيين كما يؤكد ذلك عبد اللطيف كريستيلو، أحد خبراء علم الإنسان والذي استقصى كل مساجد المدينة.
يشرف على تجمع بيريدج الإسلامي مجلس إدارة ، أكثرهم من المهنيين الفلسطينيين. وما بدأ ذات يوم من عام 1984 كموقع صغير مطل على بيريدج – بلا اسم وبلا إمام – أصبح الآن واحداً من أهم امراكز المسلمين في المدينة ، ومغناطيس للمهاجرين الجدد.
تعج طوابق المبنى الأربعة بالحياة، فهناك حضانة ومكتبة إسلامية ودروس قرآن ومحاضرات يومية. ويؤدي صلاة الجمعة فيه ما يزيد عن 1500 مصل، يتزاحمون في أحيان كثيرة للصلاة على رصيف المسجد. ويتاح للمصلين ممن لا يتحدثون العربية من الألبان والباكستانيين سماع الخطبة من خلال ترجمة مباشرة عبر سماعات الأذن. و تبرعات هؤلاء المصلين والتي تجمع في صناديق كرتونية هي التي تحافظ على بقاء المسجد.
ومسجد بيريدج بالنسبة للكثير من الأئمة هو بحق تحد يعلم التواضع، فيؤكد السيد موسى – الذي خلفه السيد شطا – على ذلك بقوله: "أنه محطة المهاجرين الأولى" ، ثم يتابع قائلا: "والمهاجرين لديهم الكثير من المشاكل."
تجاوز الاتصال بالـ911 وأطلب الإمام.
هبط السيد شطا في مطار كينيدي الدولي مرتديا قبعة من لباد قرمزي وجلبابا رماديا طويلا يتدلى من رقبته إلى قدميه اللتين يكسوهما صندلان، وهي الملابس التي يفخر بها علماء الأزهر. ولم يكن يتكلم الإنجليزية البتة، ولكنه كان يحمل في جنباته بعضا من الغرب. فقد كان بإمكانه أن يستشهد ببساطة بمقتطفات من أقوال فولتير وشو وكانط، كما أنه كان يمزح قائلا أنه كثير الانضباط أخذا بالاعتبار أنه مصري..
وأول شئ أحبه السيد شطا في أمريكا هو الانضباط، مثل ألمانيا.
يقول: "في مصر، إن تجاوز أحد إشارة حمراء، فإنه يعد ذكيا، أما هنا، فإنه يفقد كل الاحترام".
يقف الأمريكيون في الطوابير، ويعتنون بباحات منازلهم. وعندما يطلب المرء الشرطة فإنهم سيمع طرقا على بابه بعد دقائق. وقد أعجبت هذه الحقيقة السيد شطا، وكذلك نساء مسجده.
وقد اكتسبن سمعة بأنهن يقمن بالاتصال برقم 911 لأسباب غريبة. فقد اتصلت إحدى النسوة لأن قريبا لها في الخارج هددها بأنه سيستولي على حصتها من الميراث. يقول السيد شطا وهو ينفجر ضاحكا: "غادرت الشرطة ولم يكتبوا شيئا، إذ لم يكن هناك ما يكتبونه".
وقد اتصلت امرأة أخرى وهي غاضبة لأن زوجها سمح لابنة له من زواج سابق بأن تبيت لديهما.
يستطيع السيد شطا أن يتفهم دوافع تلك النساء، فهن هنا بلا أخوة ولا أباء ولا أعمام – وهم من لهم السلطة في حل النزاعات الأسرية – ولذا فهن يتصلن بالنجدة كمحاولة لإيجاد البديل المحلي. وتدريجياً تعلمن أن يتصلن بالإمام.
يدهش السيد شطا – وهو رجل ضخم ذو وجه مريح ملتح – رواد المسجد كونه مزيجاً عجيباً لعدة أمور، فهو صارم لكنه مرح، وهو سلطوي على المنبر، إلا أنه ودود بين الصلوات.
توارد عليه الكثير من رجال العقارات والأطباء وسواقي الأجرة والشيوخ للتعرف على الإمام الجديد. وقد رحب بهم السيد شطا وقدم لهم قهوة الدنكن دونت، التي جلبها قيّم المسجد الجزائري، ثم تجاذب معهم أطراف الحديث وبدأ بسرد قصص شعرية أذهلت زواره، فجلسوا في صمت...وبردت قهوتهم.
تقول ليندا صرصور ( 25 عاماً ) ، وهي أحد الناشطات المسلمات: " تستطيع هضم كل كلمة يقولها" .
إلا أن الإمام كان في تلك الاجتماعات يأخذ ملاحظات أيضاً، فالأمور في أمريكا تجري بشكل مختلف. المساجد هنا هي مؤسسات غير ربحية ويحظى روادها بمناخ ديمقراطي كبير، وهو ما أدهش السيد رضا، فهو يذكر مدى دهشته عندما أصر رجل لا يملك حساً موسيقياً على أن يؤذن للصلاة. ففي مصر - التي يمتلك مؤذنوها أصواتا جميلة تسجل وتباع على اسطوانات مرتفعة المبيعات – يقابل مثل هذا الرجل بالسخرية.
لكن في بلد الفرص المتكافئة هذا ،يستطيع هذا الرجل أن يشتكي من التمييز، ولذا لم يجد السيد شطا بداً من الإنصياع لطلبه، إلا أنه ينتفض كلما دوى ذلك الصوت بين فترة وأخرى.
تواردت المشاكل بمجرد أن بدأ السيد شطا عمله الجديد: "مراهقون متمردون، مشاكل زوجية، اعترافات بالغرام، و اتهامات بالسرقة" .
ويبدع الإمام في تجاوبه مع تلك المشاكل. ولعل أكثر القضايا دراميةً هي تلك المتعلقة ببائعي الـ "هوت دوغ". فهناك قضية البائعين اللذين كانا مشتركين في موقع واحد، إلا أنهما لم يكونا يحملان وداً لبعضهما، فجاءا إلى الإمام الذي ساعدهما على تقسيم عملهما.
وهناك أيضاً قضية بائع الهوت دوغ الذي اتهم بالاستيلاء على آلاف الدولارات التي جمعها لأطفال صديقه الراحل، ولأنه لم يكن هناك من إثبات - فقد جمعت التبرعات نقداً – رأى الإمام أن يقسم الرجل على القرآن.
ويقول السيد شطا: "من يحلف على القرآن كاذباً يصاب بالعمى" ويؤكد على أن هذا الاعتقاد كان مفيدا جدا في قضايا السرقة. ولذا فقد جاءت مجموعة من الرجال بالبائع إلى المسجد، وهناك اعترف بالاستيلاء على 11400 دولار. فألزم بكتابة إقراره ذاك على ورقة (إثبات خطي) باللغة العربية، ووقع عليها أربعة شهود. ولاحقاً أعاد الرجل المبلغ بالكامل.
هناك العشرات من تلك "الأوراق" في أحد أدراج مكتب الإمام. في إحداها كتب رجل - من بروكلين- كان حرق زوجته بالمكواة التزاماً بألا يفعلها ثانية، وأنه إن فعلها فعليه غرامة تأديبية بقيمة عشرة آلاف دولار. وعلى الرغم من أن الشرطة تدخلت من قبل في هذه القضية ، إلا أن المرأة فضلت مساعدة الإمام.
أصبح مسجد بيريدج للمئات من المسلمين كدار قضاء مفتوحة أكثر من تلك في وسط المدينة، وأصبح مخفرا للشرطة أكثر فعالية من مخفر الشرطة الفعلي، الذي يبعد عدة شوارع. حتى رجال الشرطة أنفسهم يحاولون الاستفادة من تأثير الإمام في تهديد المراهقين المشاغبين بأنه سيتم أخذهم إلى المسجد بدلاً عن المخفر.
يهتف المراهقون – كما يؤكد الضابط المتقاعد راسل كين -: " لا ليس إلى الإمام، فسيخبر والداي".
زواج ورهن عقاري ومكدونالدز
لاحظ السيد شطا بعد وصوله إلى بروكلين مباشرة نوعاً من الانسلاخ الدقيق بين رواد المسجد من النساء. فالجدد منهن في أمريكا يحافظن على ما اعتدنه من تقاليد في بلادهن، واللواتي ألفن نمط الحياة الأمريكية بدأن بالتساؤل عن جدوى بعض التقاليد. فهنا مفاهيم مثل "العيب" لا تعني الكثير، وأفعال يكرهها السيد شطا مثل الطلاق تنتشر بشكل واسع ما يثير الدهشة.
"ويعلق السيد شطا على ذلك بقوله: " المرآة التي تأتي من الخارج ، يبدو وكأنها خرجت من الظلام إلى مكان منير".
في أوائل يوليو اتجه مدرس كاراتيه مصري إلى مكتب السيد شطا، وجلس على أحد الكنبات التي تبرع بها أحدهم للمسجد. تبسم بحياء وبدأ بالحديث، فاشتكى من أن زوجته التي تزوجها حديثا لا تبدي أية مشاعر الحب تجاهه وتشتكي من ضآلة مرتبه وتتهمه بفقدان الطموح.
طلب منه الإمام أن يكون صبوراً.
بعد أسبوعين جاءت الزوجة تريد الطلاق.
قالت المرأة البالغة من العمر( 32 عاما) والتي قدمت من مدينة الإسكندرية لتعمل مدرسة للغة العربية: "ليس بيننا تفاهم"، وكانا قد تقابلا من خلال صديق لهما، ووافق أهلها في مصر على الزواج وهم مترددون.
قال لها الإمام: "أعتقد أ ن عليك أن تكوني صبورة".
فأجابت بحزم: "لا أستطيع. إنه يحبني ولكن لا بد لي من أن أحبه أيضا.."
تململ السيد شطا في كرسيه، إذ لم يكن هناك شيء أبغض إليه من أن يقوم بتطليق زوجين.
وقال: "من الصعب علي أن أدعه يطلقك. كيف أقابل الله يوم القيامة إذ ذاك؟."
فردت عليه بأن الطلاق هو شريعة من شرائع الله أيضا، واستمر الحوار.
ثم سألها عن رقم والديها في مصر، وعن طريق سماعة التلفون العامة، ألح والديها على الشيخ بأن يطلق أبنتهما فقد كان من الواضح أنها بائسة جداً، وهما – لبعدهما – لا يستطيعان التدخل.
تنهد الشيخ رضا وطلب من محمد، السكرتير التنفيذي أن يطبع شهادة طلاق، في الحالات التي قبل فيها السيد رضا بعمل إجراءات الطلاق، ينبغي أن يكون الزوجان قد قدما طلبا للطلاق أمام القانون المدني.
قال لها الإمام محذراً : "بما أنك التي طلبت الطلاق، فعليت أن تعرفي أن من غير الممكن أن تعودي إليه أبداً"، واكتفت المرأة بالتبسم في أدب.
ثم علقت على الموقف لاحقاً بقولها: " أهم شيء لدينا هو ديننا.. وقانوننا هو ديننا."
يعتمد الفقه الإسلامي على تراث فكري لما يزيد عن 14 قرناً، غير أن الأئمة في أمريكا وأوروبا غالباً ما يجدونه غير كاف للتعامل مع قضايا الحياة في الغرب ،ومعضلات الحياة في أمريكا كانت كلها غريبة على السيد شطا.
الإباحية منتشرة و تؤجج سؤالاً لم يسمعه السيد شطاً قبلاً : هل الاتصال الجنسي الفموي جائز؟ والخمر والخنزير محرمان في الإسلام، فهل يجوز بيعهما؟ هناك أيضاَ ضجر النساء من النظرات المزعجة في قطارات ومحطات الأنفاق وهو ما يدفعهن إلى السؤال عما إذا كان بإمكانهن خلع الحجاب. المسلمون هنا يحاولون تكشف طريقهم من خلال مشاكل لم يقابلها السيد شطا قبلاً.
في البداية اعتاد الإمام الاتصال بغيره من الشيوخ في مصر، طالباً بعض فتاواهم، غير أن آراءهم لم تكن متصلة تماماً بالحياة في أمريكا. وهناك قضاياً لم يكن السيد شطا يجرؤ على طرحها مثل الجنس الفموي، فبدأ يبحث عن أجوبة خاصة به، وأصبح – على حد تعبيره – أكثر مرونة.
هل سندويتش البيغ ماك حلال؟ أجاب السيد شطا بنعم، ولكن ليست سندويتش البيرغر مع لحم الخنزير كذلك.
ويعتقد السيد شطا أن للمرأة حقاً في نزع حجابها إذا خافت على نفسها، وللمسلمين كذلك العمل في وظائف تتطلب تقديم الكحول والخنزير فقط إذا لم يتمكنوا من الحصول على أعمال أخرى. ويرى أن الاتصال الجنسي الفموي مقبول ولكن بين الزوجين فقط، وأن الرهن العقاري ضروري ليستطيع المرء التطور في أمريكا.
ويعلق السيد شطا على أرائه تلك بقوله: " يفترض أن يجعل الإسلام حياة المرء أسهل وليس أصعب." .
من ناحية أخرى يمكن القول أن الإمام يقاوم التغير. فقد تعلم القليل من الإنكليزية، وهو ما تطلب وجود مترجم طوال مدة الستة أشهر.
وفي حين أن بعض الأئمة في الولايات المتحدة ينأون بأنفسهم عن الرأي القائل بأن مصافحة النساء أمر غير لائق إسلامياً، إلا أن السيد شطا يرحب بالنساء بإيماءة من رأسه.
وهو يمر يومياً أمام دار السينما المجاورة للمسجد، إلا أنه لم يشاهد أبداً فلماً في دار سينما. وهو يرى أن الموسيقى محرمة فقط إذا "أججت الغرائز الجنسية". وهو يرفض أن يدخل شخص الإسلام إذا بدا أن الأمر غير مرتبط بإيمان حقيقي.
ويقول في ذلك، بعد أن رفض أن يقبل إسلام امرأة إكوادورية أحس أنها تريد الإسلام لأجل زوجها السوري: "الدين ليس قطعة ملابس تغيرها. أنا لا أريد أحداً يدخل الإسلام مساء ويغادره في الصباح".
الثقة بقضاء الله
سقط السيد شطا مغشياً عليه بعد أن مضى عشرة أشهر على قدومه إلى أمريكا. كان اليوم جمعة، وكان المسجد ممتلئا بالمصلين الذي التصقوا ببعضهم، بينما تجمعت نساؤهم وبناتهم في مصلى النساء في الطابق الأسفل. فصيت خطب الإمام قد انتشر وعاد جالباً معه مسلمين من مناطق بعيدة مثل "أُلبني" و "هارتفورد".
"يومها بدأ السيد شطا كعادته: " الحمد لله.." وبدأ صوته تدريجياً في الارتفاع.
وما هي إلا دقائق معدودة – كما يتذكر الإمام – حتى بدأت الغرفة بالدوران.. وسقط على سجاد الأرض مغشياً عليه، ليقضي أسبوعا في المستشفى. وبحسب عامل خدمة اجتماعية و مستشار اجتماعي، تابع كلاهما حالة الإمام،فإن الإمام كان يعاني من الإجهاد. وقد سماه المستشار وهو علي غيث، " الإرهاق التعاطفي" وهو ما غالباً ما يصيب العاملين في مجال الإغاثة..
لم تكن الساعات الطوال والمتطلبات التي لا تنتهي هي وحدها التي أثقلت الإمام إلى أن أسقطته مغشياً عليه، وإنما كانت أيضاً ويلات رواد المسجد النفسية والتي بدت وكأن لا نهاية لها.
خلقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الكثير من الأمراض النفسية – كالاكتئاب و القلق - بين المسلمين. غير أن الأئمة – على عكس القساوسة والأحبار – لا يتلقون أي تدريبات في الصحة العقلية، ولم يكونوا على علم بالخدمات الاجتماعية المتوافرة.
وهناك أيضاً معضلة معقدة قائمة في الصميم: وهي أن الأئمة غالباً ما يتعاملون مع الأمراض العقلية من منظور إسلامي صرف. فينظر إلى الصعوبات كامتحان لإيمان المرء، وعلى أن على المرء التوكل (أو الثقة بقضاء الله) ولذا فالعلاج الذي يقدمه الأئمة هو الحل الروحي والذي يطلب في الصيام والصلوات والتأمل.
ويقول الدكتور حمادة حامد، الطبيب النفسي في جامعة نيويورك: "يقيد المهاجرون المسلمون أنفسهم بالحلول الدينية، نظراً لما يحيط بالأمراض العقلية من تصورات العيب الاجتماعي. ويشير الدكتور حامد، والذي أسس دورية "الصحة العقلية للمسلمين"، "إذا قال أحدهم أنت تحتاج هذا الدواء ..سيكون الرد: أنا متوكل" .
بدأ السيد علي غيث، وهو مهاجر فلسطيني يعمل في إدارة المدينة للصحة، قسم التجهز لمواجهة الكوارث، باللقاء مع الإمام بشكل دائم بعد حادثة سقوط الإمام. وقال السيد غيث أنه كان على الإمام أن يفصل نفسه عن المصلين وهو مفهوم أدهش الأمام.
ويقول الإمام: " لم أعط لتلك المشاكل الأذن بالدخول إلى قلبي، ولم أستطع أن أخرجها منه."
وقادت تلك اللقاءات والحوارات إلى خروج برنامج لتدريب الأئمة إلى النور يمزج بين الإسلام وعلم النفس، وتعلم الشيخ رضا أن يحدد أعراض الأمراض العقلية، ومن ثم بدأ بتحويل الناس إلى التطبب.
غالباً ما يرفض رواد المسجد المساعدة، ملقين باللائمة على الحسد والسحر في مشكلاتهم.
فقد أصر زوجان فلسطينيان من كاليفورنيا على أن أبنهما (18 ربيعاً) غريب الأطوار يعاني من الحسد بعد أن عثر عليه يجوب شوارع نيويورك. وأخيرا تم تشخيص حالته بـ"انفصام الشخصية".
مع ذلك.. لا يحالف الحظ السيد شطا دائماً. فقد كان أقل توفيقاً مع رجل - دأب على الصلاة في مسجده – مصاباً بالرعب، حيث يؤكد دائماً على أن زوجته تقوم بعمل أسحار مؤذية له. ورفض العلاج مصراً بأن الطلاق هو العلاج الوحيد.
ومرة أخرى.. يبدو أن بلد السيد شطا الجديد يتطلب الصبر والابتكار، ولإجراء حوار حذر بين التقاليد والحداثة. دائماً: .
ولذا فهو يؤكد أن: "هنا لا تعرف ما الذي قد يحل المشكلة.. فالمهم هو البحث عن مفتاح."