ميدلتاون ، نيوجرزي _ دخل الشيخ رضا شطا وهو يدفع عربة تَسوق فارغة ، مرتديًا جاكت جلديّ أسود في أحد جيوبه مصحفٌ صغير و تحته جلبابٌ طويل.
An Imam in America
A Calling Beyond BrooklynThe Times’s Andrea Elliott profiled Sheik Reda Shata in March 2006, when he was still in Brooklyn, in a three-part series.
Part 1: A Muslim Leader in Brooklyn, Reconciling 2 Worlds (March 5, 2006)
Part 2: To Lead the Faithful in a Faith Under Fire (March 6, 2006)
Part 3: Tending to Muslim Hearts and Islam's Future (March 7, 2006)
Multimedia
مشى الإمام (و هو مصرى فى الثامنة و الثلاثين من عمره) بين النّاس و كأنّه لم يلحظ نظراتهم إليه ...فذهب يبحث عن فرصةٍ أو عرضٍ جيّد فوجده بين رفوف المشروبات: 32 صفيحة كوكاكولا، فقط بسعر 8.29 دولار، فرأى السيّد شطا في ذلك تجربة إسلاميّة مرضية. قال الإمام رضا: قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم: "لا عال من اقتصد." فهو يتسوّق هنا كل أسبوع ويقر بأنه يدعو لمالكي المحل. إذ يبتسم ويقول: "همُ من أهلِ الجنةِ إن شاء الله!"
وقد استقر الشيخ شطا في هذه الضاحية في نيوجرزي ليقوم بإِمامة مسجدٍ أهله من المهاجرين الميسوري الحال الذين استقروا في هذه المنطقة منذ زمن. وشتان ما بين هذا المسجد والمسجد القديم (في بروكلين) الذي عمل فيه الشيخ جاهداً طيلة أربعة أعوام في خدمة مئاتٍ من المسلمين الكادحين الحديثي العهد بأمريكا، و تُعدّ انتقالته هذه انتقالةً متوقعة لكلِّ إمامٍ غير أمريكي الأصل، فهم عادةً يبدأون في مساجد المدن ثمّ ينتقلون إلى الضواحي حيث الأجواء الهادئة.
وَجَدَ السيّد شطا في ميدلتاون ما يبشّره بحياةٍ فيها من الرفاهية ما لم يجده في سنين المعاناة والشقاء ، فقد ترك شقةً ضيقةً إلى بيتٍ مستقلٍ بشبابيكٍ خضرٍ يحوطه ما يَسُرُّ من شجرٍ القيقب وحقولِ النجيل الممتدة، وحصَّلَ زيادةً في الراتب وتَعلَّم القيادة.
ولكنَّ الضواحي أيضاً جاء معها من التحديات ما لم يكن يخطر على بال السيد شطا من قَبل ، حيث كان المصلون في مسجد بروكلين على صلةٍ عميقةٍ بدينهم الإسلاميّ وإن كانوا على هامش المجتمع الأمريكي، بينما يغلب على مسلمي ميدلتاون اندماجهم في المجتمع الأمريكي وقلة اتصالهم بمسجدهم.
فقد وجَدَ أنه من واجباتِ الإمام الناجح في مجتمع الضاحية إقناع الأطباء والمحامين بألاّ يسارعوا في الخروج من المسجد بعد الصلاة إلى سياراتهم لتفادي وقت الذروة.ووجد أيضاً أن الإمامة الناجحة في الضواحي الميسورة تعني ضرورة التواصل معَ أبناءٍ وبناتٍ يركبون سيارات فارهة ويتحدثون عربيةً يشوبها الكثيرُ من الإنجليزية، ويعني أيضاً الحاجة إلى مساعدة ابنته على التعامل مع ما تسمعه من أذى في مدرستها، في ضاحية تسكنها أغلبيةٌ من البيض وراح منها العشرات إثر أحداث 11 سبتمبر.
فالسنوات التي قضاها في بروكلين أقنعت الشيخ بأن الإِمَامَة في أمريكا لا تنطوي فقط علي ما دَرَسَهُ في مصر من إقام الصلاة واعتلاء المنابر بالخطب. فقد تطلّبت وظيفته في أمريكا عقد الزيجات والوساطة بين مكتب التحقيقات الاتحادي (FBI) وبين المسلمين، وعقد محكمة شرعية لحل مشاكلة بين بائعينَ مسلمينَ من باعة سندوتشات الهوت دوج.
وإبّان استعداده للرحيل إلى هذه الضاحية – ضاحيةٌ يصل متوسط الراتب السنوي فيها إلى 88 ألف دولار – ذكَّر الشيخ نفسه بأنه لا تعارض بين المال والدين الإسلامي طالما كان الأغنياء متقون. ولكن مما أثار عَجَبه أن رجلاً في مسجده الجديد قد اشترى لابنته سيارةً حديثة ما كادت تركبها حتى طلبت تغييرها. قال السيد شطا وهو يحدثني عبرَ مترجمٍ فوري: الإسلام يقول للمؤمن املك الدنيا ولا تمُلِّكها منك ..اجعل الدنيا في يدِك ولا تجعلها في قلبك.
ويَسُرُّ الإمام هنا في مقاطعة مونموث اتساعها وتوفر المساحات الشاسعة بعد الذي اعتاده في المدينة من صخب وازدحام طيلة سنين. ولكن مع المساحات تأتي المسافات، حيث يعيش أكثرية المصلين هنا على بعد 20 ميلاً من المسجد أو يزيد مما يؤدي إلى ضآلة الحضور إلى المسجد. ففي أرض الأسواق ووالدوري الرياضي للناشئين تندُر مظاهر الشخصية الإسلامية، حتى أن مسجد الشيخ الجديد ذاته يبدو من أول وهلة وكأنه مبنى يليق بشركةٍ أو مكتب لا بمسجد ، فلا تعلوه مئذنة، وقبته لا تكاد تُرى. ولا يوجد هنا من البنات كثيراً ممن يرتدين غطاء الرأس الإسلامي وبعضهن يستبدلنه بفانلة لها زُنت (هودي).
وفي هيئته يبدو الأمام هنا وكأنه زائرٌ من عصر قد مضى. فهو في جلبابه وعمامته يخطب في رجال يرتدون الجينز الأزرق وعلى أحزمتهم جوالاتهم. ورغم هذا يعتقد الشيخ شطا أنّ هؤلاء لهم دورٌ حيوي حيال مستقبل الإسلام في الغرب، فبقاء الإسلام هنا، بل في أمريكا كلها - على حد قوله - يعتمد على نجاحهم. يقول السيد شطا: "نحن نعيش هنا في هذه البلاد ويجب علينا أن نتعايش مع أهلها. فعلينا أن نَندمجِ معهم كما عليهم أن يندمجوا معنا."
الرحيل عن بروكلين:
بعد ظهيرة يوم من أيام سبتمبر/أيلول، خلا موقف السيارات الخاص بالمسجد إلاّ من سيارةٍ واحدة ...سيارة نيون دودج حمراء موديل 1997 تسير وتلف في دوائر وخلف عجلة قيادتها كان السيد شطا ، حيث أخذ يتمرن استعداداً لاختبار القيادة. اقترب الشيخ من إشارة توقف فقال: "كما ترين الآن... هذه علامة وقوف ... فلابد من احترامها..." ثم داس على الفرامل فتوقفت السيارة فجأة، ثم دبّ بقدمه وصندله على دواسة البنزين فانطلقت السيارة إلى الأمام ، فلم يكن للسيد شطا عهد بالقيادة من قبل مجيئه إلى ميدلتاون ، بل أنه كان يخاف القيادة خوفاً شديداً منذ شهد في طفولته مصرعَ رجلٍ دهسه جرار بالقرية في مصر.وعاش الشيخ منذ هجرته إلى أمريكا عام 2002 دون الحاجة إلى سيارة. ولكن الآن ، في الضواحي الشاسعة، لم يعد له الخيار فإن ميدلتاون تبعد عن المدينة بمقدار 43 ميل ، بل هي أبعد من ذلك في نظر السيد شطا. ففي بروكلين كانت مشية الشيخ إلى "مسجد مصعب" تثير الهرج في الشارع ، حيث يلوح له أصحاب المحلات ويهلل له سائقو التاكسي أمّا الآن ففي طريقه إلى صلاة الفجر قد يرى غزالاً أو أرنباً برياً وحسب.
لكن بروكلين مازالت تَتْبعُهُ وتجَِدُ طَريقَها وراءَه. فما زالَ الآباءُ من حي باي ريدج يأتون يطلبون عونَ الإمام في البحثِ عن الزوج المناسب لبناتهم. وما زالت الزوجاتُ الغاضبات تطلبن نصحَهُ في أمورِ الحياة الزوجية ، وفي كل جمعة يأتيه مريدوهُ من بروكلين لسماع خطبته.
يقول أمجد عبده – وهو سائق ليموزين من أصل مصري يأتي كل جمعة وسيارته مليئة بالركاب : "قد يكون الشيخ هنا بجسدِه ولكن روحه هناك في بروكلين ... إنه عَلَمٌ كتمثال الحرية ، فهو جزء من باي ريدج وصرح بين مبانيها."
وبينما يفتقد الشيخ حياته بالمدينة أحياناً إلا أن علاقته بمسلمى بروكلين قد تغيرت بعد أن نَشَرت صحيفة نيويورك تايمز سلسلة مقالاتٍ عنه في مارس/آذار الماضي. ففي أول الأمر وجد نفسه من أشباه المشاهير...فقد طُبِعَت المقالات في الصحف العربية المنشورة في الغرب وفي الشرق الأوسط على حدٍ سواء ، وجاءهُ المئاتِ ممن لا يعرفهم يطلبون الموعظة والنصح، وزادت قائمة المسلمين الباحثين عن الزواج عنده وطالت بما يزيد عن الثلث حتى وصلت إلى 820 اسماً ورقم هاتف.
أما بعد ذلكَ فقد أثارت سلسلة المقالات ذاتها حديث الناس بشكل ما كانَ يتوقعه السيد شطا ... فمثلاً أصيب الكثير من المسلمين بالصدمة عندما قرؤوا في إحدى المقالات أن الشيخ يبيح ممارسة المداعبة الجنسية بالفم بين الزوج وزوجته – رغم أن الكثير من أكابر علماء الدين في الشرق ، على حد قول السيد شطا ، يشاركونه هذا الرأي. واعترض آخرون على رأيه في أن المسلمَ يجوزُ له بَيْع الخمر ولحمِ الخنزير إذا لم يجد عملاً آخراً.
ثم كان هنالك من انتقده على صفحاتِ موقعِ انترنت للجهاديين في انجلترا وخصًّ بالاستهزاء محل ميلاد الشيخ شطا ، قرية كفر البطيخ في مصر ، ثم أضاف: "اللهم احفظ الإسلامَ والمسلمينَ من شرورِ أهل البطيخ."
وأيضا اندلعت في باي ريدج معركة بين الناس في الشارع حيث كان أحدهم يوزع منشوراً يقول أن الإمام ما هو إلاّ شيطان. وقال بعضهم ، مثل هشام العشري الخياط بحي باي ريدج ، أنهُ ليسَ لإنسانٍ أياً كان أن يغيّرَ من الإسلام ليرضي به الناس.
وتوالت الأسابيع والشيخ رضا يدافع عن نفسه حتى شعر بأنه استُنفِذ. والآن كانت فرصة المساجد الأخرى التي طالما حاولت اجتذابَه ، فتقدم له الكثيرون بعد سماعِهِم بما يمّر بهِ من متاعب.
يقول محمد مسعد ، عضو مجلس شورى مسجد الأمان: "وجدناه شديدَ الارتباطِ بأهلِهِ وناسِه."
ومسجدُ الأمان ، كمثل الكثير غيره من مساجد الضواحي ، أُسَّسَ في الثمانينيات كمكانٍ صغير تتقابل فيه بعض العائلات من أجل إقامة الصلاة بشكل غير رسميًّ أو معلن ثم جعلهُ أهله مصلىً على أرضٍ مساحتها تقربُ من 6 فدادين إلى أن استطاعوا أخيراً جمع 1.7 مليون دولار من التبرعات من أجل توسعتهِ وانشاءِه مسجداً كبيراً تم بناءُه في عام 2003. وأخذَ المسؤولون عن المسجد بالاتصال بالإمام شطا لمدة شهور وعرضوا عليه تحديث المنزل القائم على أرض المسجد وإضافة مطبخ جديد له ومكتبة خاصة بالشيخ ...فاستخار السيد شطا ربَّه وانتظر العلامة حتى استيقظَ فجر يومٍ فسمع هاتفاً يناديه بأنَّ مسجد مدلتاون هذا هوَ "الأمان" فاستقال في اليومِ ذاتهِ.
غرس جذور جديدة:
في ليلة من ليالِ يوليو /حزيران، وقبيل انتقاله إلى العيش في الضاحية، قام السيد شطا بزيارة مسجد مدلتاون. وعلى صفير الجراد وبين همسات النجيل وتحت غمزات النجوم مشى الشيخ حول المسجد يَتَفقدُهُ مع ثلاثة من أصحابه، فرأى على بعدٍ ما ظن أنه بريق بين الأشجار فسأل مازحاً: "هل يسكن تلك الغابة جن؟" قال أحدهم: "لا...ولكن الحشرات هنا تضيء!"كانت هذه واحدة من العديد من المبهرات التي وجدها الشيخ في موطنهِ الجديد، حيث أصبح يهوى الجلوس في مندرة بيته ليكتب خطبتهُ للجمعة القادمة وهو يَطرب لصوت المطر وكأنه سيمفونية موسيقية.
وبينما كانت أسرة الشيخ نادراً ما تغادر الشقة في بروكلين، وكانت ابنته روضة – 8 سنوات – تعاودها نوبات المرض بشكل مستمر، فالآن يجري أبناؤه الأربعة بانطلاقٍ على النجيل، وروضة لم يعاودها المرض منذ غيَّر الأطباء هنا دواءَها ، وزوجة الإمام يعجبها نقاء الجو هنا.
ولكن إذا كان حال أسرة السيد شطا قد تحسن ، فحال مسجده الجديد كان في أشد الحاجة إلى كثيرٍ من الجهد ففي بروكلين كان المصلون يبقون في المسجد بعد الصلاة يتبادلون القُبَلَ والأحضان ، أمّا مسجد مدلتون فَتَعمُّهُ الغربة بين الناس. ويقول أحدُ المصلينَ هنا: "كنا في حاجةٍ إلى من يجمع شملنا ويُوحِد كلمتنا."
بدأ الشيخ رضا أولاً بحفظ أسماء ما يقربُ من 600 من المصلين ورصد حضورهم وغيابهم في ذهنه. فذاكرته الفذة هذه قد ساعدته في صغره على حفظ القرآن كله وهو ابن 8 سنين. وغاب ذات مرة الدكتور رائد جيطان عن صلاة الجمعة فلما حضر إلى المسجد بعد ذلك أدهشه إن السيد شطا ناداه باسمه قائلاً: "رائد .. أين كنت يا رائد؟" وأصبح من المعتاد أن يقطع الشيخ حديثه أثناء الدرس بالتنبيهات للجالسين ، مثل أن ينادي فجأةً: "يا أحمد .. لا تنم، الله يخليك!!"
وفي ذات جمعةٍ أمر الشيخ المصلين بالوقوف والتسليم على بعضهم البعض. وفي يومٍ آخر استحلفهم ألاّ ينصرفوا قبل أن يتصافحوا. وهكذا حتى إذا ما لبِثَ أن جاء الخريف أصبح مسجد الأمان مكاناً مختلفاً عما كان عليه من قبل. فالمصلون الآن زادوا إلى أربعة أضعاف، ودروس الشيخ في المساء مزدحمة. يقول السيد شطا: "سريعاً ما نبتت الجذور..."
ويُعجِبُ الشيخَ امتياز المصلون هنا بالعقلانية المعاصرة ولكنه مازال يحاول التعايش مع بعض العادات، كمثل حفلات العَشَاء التي فيها يأكل الرجال والنساء معاً في نفس الغرفة. يقول الشيخ: ليس هذا ضد الإسلام في شئ ولكنه هو وزوجته يفضلان المناسبات التقليدية حيث يجلس الرجال والنساء في غرفتين منفصلتين بمدخلين منفصلين.
ومازال السيد شطا يستعمل العقود الإسلامية التي كان يعقد مثلها في بروكلين لحل المشكلات الزوجية ، ولكن تذهله أحياناً كمية المال المعقود عليها هنا. ففي بروكلين كان الرجل يتعهد مثلاً بدفع 10 دولارات لزوجته إذا ما أهانها ، أما هنا في مدلتاون فمثل هذا العقد قد يُدخِلُ للزوجة 1000 دولار عند كل شتيمة.وأصبح المال والغنى في خُطَبِ الشيخ موضوعاً متكرراً حيث خطب مرة يقول: "ليست قيمة الإنسان في ملبسه ولا في حِسابِه المصرفي، وإنما قيمته الحقيقية في حسابِه عن ربِّه."
ولكنه لا يملك أحياناً إلاّ أن يفكر في حالته المادية. يقول لنفسه أنه لا بأس أن حاله متواضع بالمقارنة مع "القصور" التي يسكنها بعض المصلين أو أنَّ سيارتَه الدودج القديمة تبدو غريبة بين سياراتهم البي إم دبليو والليكساس. يقول الشيخ: "أنا راضٍ بما قسمه الله لي." قالها وهو لا يعلم أن ابنته استشهاد - 12 سنة - تحاول أن تطلب منه تليفوناً جوالاً خاصاً بها.
جيل يحتاج إلى من يرشده:
في صباح كل أحد تتحول قاعة الصلاة الرئيسية بالمسجد - مُصَلّى الرجال - إلى واحةٍ للشباب والشابات. البنات في ناحية يرتدين غطاء الرأس، والصبيان في ناحية يرتدون "سويت شرتات" وجاكتات "?ارستى". ومن حين لآخر تُسمع رنات الرسائل من جوالاتهم والشيخ يقف أمامهم يقول: "من عنده سؤال؟" فيرفع شابٌ مموج الشعر يده بسؤال: "هل وصّى الرسول بسنٍ معين يجب أن يَبلُغَهُ الرجل قبل أن يتزوج؟"ويشرع السيد شطا بحرص في خطابٍ منمقٍ عن وجوه الاختلاف بين حياة اليوم والحياة في أيام الرسول حيث كان الرجال يتزوجون في عمر 16 ثم ينتهى قائلاً: "لا. إن الإسلام لا يحدد سناً معينة." ويسأل شابٌ آخر: "هل يحل للرجل الزواج من أكثر من زوجة؟" فيجيب الشيخ: "كل الأسئلة اليوم عن الزواج... ما الحكاية؟" ويعمُّ المكان الصمت ويمسح الشيخ نظارته ليكسب بعضاً من الوقت ثم يقول: "إذا قدَرتَ على الزواج من واحدة فلا تفكر في الزواج مرة أخرى."
وتنطلق يدٌ أخرى - سارة عبد المطلب وعمرها 16 - ما هي بالضبط الظروف التي تُحِلّ للرجل الزواج من أكثر من زوجة؟" ويظهر على وجه الإمام القلق ثانيةً فأبناء المسلمين في مصر يتحفظون في كلامهم مع الشيوخ ولكن في أمريكا يتعلم الأبناء إثارة العديد من الأسئلة بلا تحَفُظّ. ولكن لم يكن لدى الإمام تردد في إجابته: تبيح الشريعة الإسلامية للرجل أربع زوجات ولكن الإمام يعتقد أن هذا التعدد لا ينجح أبداً، وأن نقاش التعدد في سياق الحياة الأمريكية لا يجدي بشيء. فوجه الشيخُ نظره إلى ناحية البنات وقال: "لا تَرضى امرأة أياً كانت بأن يتزوج عليها زوجها وإن كانت لا تنجب" ثم التفت إلى الشباب وقال: "الرجل الذي لا تكفيه زوجة واحدة لن تكفيه أربع زوجات"، فنظرت سارة نحو الشباب رافعةً رأسها بفخر...
لا يشعر الشيخ رضا بالانسجام مع شباب المسجد ، فهم يختلفون عنه كثيراً في هيئة ملبسهم وطريقة كلامهم وفكرهم... ولكنه لا يرى من مهامِ عملهِ ما هو أكثرَ أهميةً من عمله مع الشباب. يقول: "نحن لابد أن نروي شجرة الإيمان في قلوبهم باستمرار وإلاّ جفَّت".
يرى السيد شطا أن أبناء المسلمين في الضواحي ليس لديهم من يرشدهم ويساعدهم علي الموازنة ما بين الفضائل الإسلامية ونزعات المراهقة وما بين تقاليد وثقافة والدِيهم وتأثير أصدقائهم. ولما اشتكى بعض الآباء في المسجد من أن أبناءهم يرفضون تقبيل أياديهم انحاز السيد شطا إلى جانب الأبناء موضحاً أنها عادة تقليدية وليست إسلامية بالضرورة.
وحيث منع بعض الآباء بناتهم عن الانضمام إلى فريق السباحة في المدرسة بحجة أن الإسلام يمنع المرأة من الظهور عاريةً بين الناس جاء الإمامُ بالحل الوسط...فأباح السباحة بشرط ارتداء مايوه شرعي (بودى سوت) وأن تكون السباحة مع البنات فقط.
وإن كان الشيخ شطا يتوسط لحل مشكلات الناس في المسجد فإن مواجهة مثل هذه المشكلات في بيته شئ آخر.
جبهة البيت:
دخل باص مدرسي أصفر إلى موقف سيارات المسجد ذات يوم بسب عطل ميكانيكي قد أصابه ، وكان الإمام خارجاً من المسجد بعد أداء صلاة العصر فأسرع متلهِّفاً نحو الباص وجلبابه يرفرف من حوله لينظر إذا كانت ابنته استشهاد في هذا الباص. فلما اقترب من الباص إذا بالأطفال فيه يشيرون إلى الشيخ ويضحكون. لمَلَم الإمامُ ما قدر عليه من الإنجليزية وعرض على سائقة الباص المساعدة ولكنها رفضت بأدب. بحث عن ابنته فلم يجدها ....لم يكن هذا باص مدرسة استشهاد.أما استشهاد فقد كان في حياتها ما يكفي من صعوبة الانتقال إلى مدلتلون. وبَعد أن كانت تذهب إلى مدرسة إسلامية في بروكلين أصبحتِ الآن أحدى اثنتين فقط في مدرستها الحكومية ترتديان الحجاب وهي تجلس وحدها في مقدمة باص المدرسة وتأكل وحدها في الكافيتريا. تقول عن زملائها: "إنهم يظنون أني غريبة الأطوار..وأنا أيضاً أحسُّ أني غريبة." فهي تسمع أن البنات يَبِتْن عند بعضهن البعض ويذهبن معاً إلى السوق، وأمّا هي فلم تجرب مثل هذه الأشياء بعد. فأمها لا تعرف القيادة والسيد شطا لا يحب أن يقود السيارة بأبناءه في أي مكان قبل أن يأمن نفسه على القيادة بهم.
وليس لإستشهاد من اتصال بأترابها من البنات إلا في المسجد. وحتى في المسجد - حيث البنات تحملن الحقائب ذوات الماركات العالمية المشهورة - تشعر استشهاد أنها غيرهن. جلست ذات ليلة وهي مثنية الظهر على حافة سريرها تقول بأنه لو كان لها تليفون جوال خاص بها أو لو كان عندها "آي بود" ربما أصبح لها صديقات، فقالت أختها رحمة - 7 سنوات - بصوتها الحاد: "أنا عندي صديقات"، فردت استشهاد رداً فورياً: "أنت لا ترتدين الحجاب!"
غير أن أم استشهاد لاحظت أنها بدأت تنسى أجزاءاً مما حفظت من القرآن وأنها زادت صلابة. فقد علقت استشهاد مؤخراً على باب غرفتها يافطة تقول:"الرجاء طرق الباب قبل الدخول" ثم بخط صغير: "أنا غاضبة". وفكرت الأم في تسجيل استشهاد في مدرسة إسلامية مرة أخرى ، أمّا السيد شطا فيرجَّح الصبر على المدرسة الحكومية رغم أنه يألم لرؤية استشهاد في وحدتها. ولما سُئل الشيخ عما قد يفعله لو خلعت استشهاد حجابها...فيأخذه السؤال لحظة ليفكر في الإجابة، فهو سؤال غير وارد في مصر، ثم يقول: "ما أفعله هو أن أقنعها وأجد ألف طريق وطريق إلى قلبها، فأنا أكره الإجبار. وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم علّموا و لا تعنّفوا."
ويرى الإمام أيضاً أن التعليم يؤدي إلى التَّعلُّم. فهو يقول: سأتعلم على الطريق.. من استشهاد في مدرستها ومن الشباب في المسجد. إنه طريق بدأه من بروكلين. ويقول: إن الحياة الإسلامية في أمريكا تتطلب عقلاً متعطشاً وقلباً قوياً، وهما شيئان يأتي بهما الشيخ إلى درس الشباب في كل يوم أحد.
وكان أول درس للشباب قد حضره 11 من الشباب والشابات أما اليوم فينظر الإمامُ إلى قاعةٍ مليئة بالوجوه ويقول: "ما شاء الله ... ستون ويزيد!".