يبدأ الإمام نهاره قبل الفجر، وتأخذه أفكاره أحيانا، وهو يمشي في الطرقات المعتمة، إلى القرية المصرية التي ولد فيها. لكن مع شروق الشمس فوق «باي ريدج» ببروكلين يبدأ الشيخ رضا الشطا عمله في هذا العالم الجديد. فالقطار يدخل نفقاً مغطى بالأوساخ حيث يجلس عدد من العمال المكسيكيين تحت البرد. وتنطلق دمية الكترونية تمثل سانتا كروز بالرقص خلف نافذة محل يبيع الفطائر. يدخل الإمام إلى مبنى مشيد بالآجر لا يشبه ذلك المسجد ذا القبة الذهبية الذي عرفه في طفولته. يقف ليصلي ثم يصعد السلالم المكسرة صوب مكتبه الخالي من النظام. يشغل جهاز الرد على المكالمات ويستمع الى أسئلة لا تنتهي.
مراهقة تسأل في إحدى الرسائل الصوتية المسجلة، ما اذا كان حلالا أكل البيرغر؟ وهل يجوز لنادل ان يقدم الكحول، وما اذا كان منصوصاً عليه في القرآن؟ ويسأل أصحاب مهن من الشبان عن مشروعية أخذ قروض عقارية، وعن أخذ الفائدة المتحققة من المال.
وهذه الأسئلة هي جزء فقط مما يواجهه الشيخ الشطا يومياً، ويتعين عليه ان يحلها، باعتباره إماما للجمعية الإسلامية في منطقة «بايي ريدج» في نيويورك. وبالنسبة لآلاف المسلمين الذين يترددون على مسجد الجمعية الاسلامية، فإن الشطا هو أكثر من شخص يؤمهم للصلاة ويلقي عليهم خطبة الجمعة. ويعيش الكثير منهم الآن بدون ذويهم الذين يساعدونهم عادة على الحصول على زوجات. وهناك عدد قليل من الأعمام وأبناء العم للمساعدة على حل الخلافات. وليس هناك أي مركز لتقديم الفتاوى في القضايا الأخلاقية.
وصل الشيخ الشطا إلى بروكلين بعد عام على هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، وبين عشية وضحاها أصبح القاضي الإسلامي، ومدير المدرسة الابتدائية والمستشار في شؤون الزواج، وفي حالة استعداد على مدى الساعة للرد عبر خط ساخن على التساؤلات المطروحة حول القضايا الإسلامية.
يتعين عليه أن يجد كل يوم حلا وسطا بين التقاليد الإسلامية والحياة الأميركية. وهو لم يحصل على أي قدر من التعليم الإسلامي الجامعي الذي يهيئه ليقوم بالمتطلبات التي يفرضها عمله في مسجد بالولايات المتحدة. ولذلك فإن العمل الشاق أرهقه تماما وفتح ذهنه. وانتهى به المطاف متعبا في المستشفى وأكسبه من جانب آخر أتباعا خارج منطقة بروكلين. وقال الشطا: «أميركا حولتني من التشدد إلى المرونة. أنا جئت من بلد يتحدث الشيخ فيه والآخرون ينصتون، إلى بلد يتحدث الشيخ فيه والناس يردون عليه».
ولا يعد الشطا، 37 سنة، رجلا ناريا متشددا أو مناصرا لإسلام أكثر تقدمية. فبعض وجهات نظره تثير غضب المسلمين المحافظين، كما ان بعض قناعاته تغضب الليبراليين الأميركيين. وهو في الكثير من الأحوال شبيه بعمل في طور التشكل، وهو يسعى إلى رسم موقفه من عالمين مختلفين.
لا تكشف ستائر مكتب الإمام أيا من الحوادث الدرامية التي تدور داخله، حيث تجد هناك نساء يبكين وأزواجا يغادرون غاضبين وصداقات تنتهي، وكل يوم تأتي قصص جديدة إلى مكتبه. جثت امرأة مغربية على ركبتيها قرب طابعة «هوليت باكارد» لتردد «ارحمني». ظلت تنوح محتجة على صديقة اتهمتها بالسرقة. وفي يوم آخر جاء رجل مع زوجته اللبنانية التي أخفت زواجها وطفلها المولود للتو عن أبيها المتعصب. وصاح الزوج «سأكشف كل شيء».
ويحل الشطا مشاكل تتعلق بالمهر ويواجه الأزواج الذين يلحقون أذى بنسائهم ويتوسط في اتفاقات تجارية بين أشخاص ويرتب زيجات. وهو يعالج كل مشكلة من منطلق قناعة علمية بأنها قابلة للحل. وقال الشطا: «أنا أحاول أن أكون طبيبا أكثر مني قاضيا. القاضي يصدر أحكاما بينما الطبيب يحاول أن يعالج».
وفي الولايات المتحدة هناك أئمة يعملون في نحو 1200 مسجد. وبعض المسلمين عاشوا لفترات طويلة هنا ونجحوا مهنيا في عملهم. لكن أولئك الذين قدموا في الفترة الأخيرة ما زالوا يصارعون ليجدوا مكانهم في أميركا. ويسود اعتقاد بأن عدد المسلمين سيزيد خلال العقود المقبلة بشكل كبير ومن المحتمل أن يتجاوز عدد اليهود الأميركيين.
ومثلما هو الحال مع الكثير من المسلمين في الولايات المتحدة، جاء رجال الدين من الخارج أيضا، ويتم اختيارهم عادة على أساس معرفتهم بالقرآن والعربية. لكن هناك القليل منهم قادر على اجتياز الاختبار الذي ينتظرهم. فمثل الرهبان الذين جاؤوا قبل أجيال تمت دعوة الأئمة ليقودوا جاليتهم، التي تعيش على هامش الحياة المدنية الأميركية. إنهم قنوات توسط إلى عالم مبهج وأحيانا عدوانيا مملوءا بالوعود والأخطار.
بدأ الشيخ الشطا في سن الخامسة بحفظ القرآن، ومثل الآلاف من أطفال مصر في الريف، تابع دروسه في مدرسة دينية تدعمها الحكومة ماليا ومرتبطة بجامعة الأزهر التي تعد قلعة الدراسات الأكاديمية الإسلامية. كان الشطا فقيرا جدا، حيث كان يصعب عليه شراء الكتب خلال سنوات شبابه، مما جعله يستنسخ مئات الكتب الموجودة في مكتبة المدينة. وعندما تخرج من المدرسة الدينية سجل في كلية الأزهر واتجه إلى القاهرة بالقطار، وهناك جلس على مصطبة لساعات مندهشا للمشاهد المحيطة به. ويقول عن ذلك: «كنت مثل طفل ضائع، السيارات لم نكن نملكها، والناس من اشكال مختلفة، والنساء الاجنبيات عاريات تقريبا. كانت القاهرة مثل عالم خيالي بالنسبة لي».
وفي سن الثامنة عشرة، اعتقد الشطا أنه سيصبح قاضيا، لكن والده حثه على الالتحاق في كلية الأئمة المعروفة باسم «الدعوة». وبعد أربع سنوات تخرج بدرجة الشرف، وكان ترتيبه السابع من بين 3400 طالب. وفي العقد التالي قدم دروسا وهو في مرحلة الاعداد. وبسبب حاجته الى المال مارس تدريس الشريعة في السعودية. ثم بعد خمس سنوات، عاد الى مصر حيث معظم الأئمة يعينون من قبل الحكومة التي تقوم بمراقبتهم لمعرفة ما إذا كانت هناك دلائل على تطرفهم أو معارضتهم السياسية. حقق الشطا استقلالية أكبر، وفتح مشروعا للأثاث، لكنه افتقد الى حياة الدعوة، فعاد أخيرا اليها باعتباره امام جامع المدينة الذي يجتذب أربعة آلاف مصل يوم الجمعة. وكانت مهماته واضحة: يصلي بالناس الصلوات الخمس اليومية ويلقي خطبة الجمعة. وكان مسجده، شأن معظم المساجد في مصر، يمول ويدار من قبل الحكومة. وكان يقضي وقت فراغه في القاء المحاضرات وادارة احتفالات الزواج وتقديم الارشاد الديني بين الحين والآخر.
وفي عام 2000 غادر الشطا للعمل كإمام في مدينة شتوتغارت الصناعية بألمانيا، حيث بدأ يشعر بحرية جديدة. ويقول عن تلك المرحلة: «رأيت عالما أوسع. كل من لديه فكرة يمكنه التعبير عنها».
لكن خلال تلك المرحلة، وقعت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في الولايات المتحدة، واصبح مسجده يتلقى الاساءات، مثل تلطيخ جدرانه بالكتابات الساخرة والقاذورات. وفي الصيف التالي تلقى الشطا مكالمة من امام في بروكلين. وكان الرجل الذي دعاه هو محمد موسى الذي غادر مسجده بسبب مشاكل تعرض لها أتباعه في أعقاب الهجمات الارهابية. واصبح المسجد يبحث عن إمام بديل، فاقترح الشطا لتلك المهمة من قبل أستاذ في الأزهر.
ومعظم الأئمة يكلفون لتولي المسؤولية في المساجد الأميركية بناء على توصية من أئمة آخرين أو رجال دين موثوق بهم في الخارج، وعادة ما يقدم لهم عقد عمل سنوي. وبعض العقود تتضمن إعانات الصحة والسكن، بينما تخلو عقود أخرى من مثل هذه الامتيازات. ويمكن أن تتراوح المرتبات بين 20 الى 50 الف دولار سنوياً.
وكان الشطا قد سمع بقصص عن مصاعب المسلمين في أميركا. وكان الراتب في الجمعية الاسلامية في «بي ريدج» أقل مما كان يحصل عليه في المانيا، لكنه كان يفكر في زوجته وبناته الثلاث الصغيرات، اللواتي لم يرهن منذ أشهر، اذ كانت السلطات الالمانية رفضت منحهم تأشيرات دخول. ووافق على تولي الوظيفة شرط ان يتمكن من جلب عائلته الى أميركا. وفي اكتوبر (تشرين الاول) 2002 منحت السفارة الأميركية في القاهرة، تأشيرات دخول لعائلة الشطا وصعدوا على متن طائرة متجهة الى نيويورك.
وبعد فترة قصيرة من وصوله الى بروكلين، لاحظ الشطا انقساما واضحا بين النساء في مسجده. فأولئك الجديدات على أميركا بقين مرتبطات بتقاليد أوطانهن، الا ان البعض ممن اندمجن في الحياة الجديدة بدأن يتساءلن حول تلك التقييدات. في مطلع يوليو (تموز) الماضي دخل مدرب كاراتيه مصري الى مكتب الشطا، ثم ابتسم وبدأ حديثه. قال ان زوجته الجديدة لا تظهر له العاطفة، وتبدو متذمرة من راتبه، وتشير الى انه يفتقر الى الطموح. حثه الامام على ان يكون صبورا.
لكن بعد أسبوعين جاءت الزوجة، وطلبت الطلاق. وقالت المرأة: «نحن لا نفهم بعضنا بعضا». كان عمرها 32 عاما وقد جاءت من الاسكندرية بمصر للعمل كمعلمة للغة العربية، والتقت بزوجها عبر صديقة في «بي ريدج». وقد وافق والدها، اللذان ما يزالان في مصر، بحذر على الزواج عن بعد. قال لها الامام: «أعتقد ان عليك أن تكوني صبورة». فردت بتصميم: «لا أستطيع ذلك. إنه يحبني، ولكن يتعين علي أنا أن أحبه ايضا». تحرك الشطا في مقعدة بصورة غير مريحة، اذ ليس هناك شيء يكرهه اكثر من الموافقة على الطلاق. وقال: «إنه من الصعب جدا بالنسبة لي أن ادعه يطلقك. كيف ألقى الله يوم القيامة؟». فردت عليه «إن الشريعة الاسلامية ايضا تعطي الانسان الحق في الطلاق». واستمر الجدال.
وأخيرا طلب الشطا رقم هاتف والديها في مصر، وعلى الهاتف طلبا منه بشدة أن يكون لينا.
ومن الواضح أن ابنتهما كانت تعيسة، وهما بعيدان بحيث لا يمكنهما التدخل. وبحسرة طلب الشطا من سكرتيره التنفيذي محمد أن يطبع شهادة طلاق. وفي الحالة النادرة التي يوافق فيها الامام على اصدار مثل هذه الوثيقة، فإن ذلك يحدث بعد ان يقدم الزوجان طلبا للطلاق في بلدية المدينة. حذرها الامام قائلا: «ما دمت أنت من طلب الطلاق، فإنه لا يمكنك أن تعودي إليه ثانية على الاطلاق». ابتسمت المرأة بأدب، وقالت: «ما يهمنا هو الدين، قانوننا هو ديننا».
* خدمة «نيويورك تايمز»